النرجسية وتقدير الذات… خيطٌ رفيع يفصل البناء عن الهدم

/ريما فارس/موقع الأمة/
في عالمٍ يزداد ضجيجه، ويعلو فيه صوت الفرد على حساب الجماعة، يصبح فهم الفارق بين النرجسية وتقدير الذات ضرورة لا رفاهية. فهما سلوكان يبدوان متشابهين في الظاهر، لكنهما — في العمق — يسيران في اتجاهين متعاكسين تمامًا: أحدهما يبني الروح، والآخر يهدم العلاقات.
النرجسية ليست مجرّد شعور زائد بالذات، بل هي حالة تُصاب بها النفس عندما تفقد توازنها. النرجسي لا يرى نفسه فقط أفضل من الآخرين، بل يعتقد أنّ قيمته لا تكتمل إلا بانتقاصهم. يعيش في دائرة مغلقة من الإعجاب المصنوع، يحتاج فيها باستمرار إلى تصفيق الآخرين لأنه عاجز عن سماع صوته الداخلي. لذلك تتكسّر العلاقات من حوله، وينمو حوله التوتر كما ينمو العشب في أرضٍ مهملة. فالنرجسية، مهما تزيّنت، تبقى هشاشة خلف قناع.
في المقابل، تقدير الذات يشبه الأرض الصلبة التي يقف عليها الإنسان بثبات. هو شعور عميق بالرضا عن النفس، نابع من معرفة حقيقية بالقيمة، لا من وهْم التفوق. الشخص الذي يقدّر ذاته ليس بحاجة إلى مقارنة نفسه بغيره، ولا يبحث عن الأضواء ليثبت حضوره. يكفيه أن يعرف أنّه يسير في الطريق الصحيح، وأنّ جهده، مهما كان صغيرًا، يضيف شيئًا إلى نفسه وإلى من حوله. تقدير الذات لا يشيّد الأسوار، بل يفتح النوافذ. يقوّي الروابط الإنسانية، ويُشجّع على التعاطف، ويجعل العلاقات أكثر صحة وصدقًا.
والفارق بين الاثنين يشبه الفارق بين من يمشي حاملًا مرآة، لا يرى فيها إلا نفسه، وبين من يمشي حاملًا قلبًا، يرى به العالم والآخرين. النرجسي لا يحتمل النقد، لأنه يعتبره تهديدًا لصورته المتضخّمة. أمّا صاحب تقدير الذات، فيستقبل الملاحظة كفرصة نمو، لا كصفعة. النرجسي يطلب الإعجاب، بينما صاحب تقدير الذات يطلب التطور.
ولعلّ أخطر ما في النرجسية أنها تتنكّر أحيانًا في هيئة ثقة. البعض يخلط بين الوقوف بثبات وبين الوقوف فوق الآخرين. بين أن تحب نفسك، وأن تُقصي الآخرين عنها. لذلك يصبح الوعي بهذا الفارق جزءًا من النضج، وجزءًا من بناء مجتمعٍ سليم لا تقوم العلاقات فيه على الاستغلال، بل على الاحترام المتبادل.
في النهاية، الإنسان الذي يعرف قيمته حقًا لا يحتاج أن يرفع صوته… يكفي أن يرفع وعيه. والإنسان الذي يحترم ذاته لن يسمح لنفسه أن يتحوّل إلى نسخة جافة لا ترى إلا صورتها. فالحياة أكبر من مرآة، والقلوب أوسع من أن تختصر في عقدة نرجسية.
النضج الحقيقي يبدأ عندما نفهم أنّ الذات تُبنى بالصدق، لا بالوهْم.




