مجتمع

فراغ قاتل…

ريما فارس / موقع الأُمَّة /

لم تكن البطالة يومًا مجرد غيابٍ عن سوق العمل، بل هي غيابٌ عن الإحساس بالقيمة، وشرخٌ غير مرئي في هوية الإنسان. فمنذ اللحظة التي يجد فيها الشاب أو العائل نفسه بلا وظيفة، يبدأ سؤالٌ وجودي بالتسلل: “من أنا إن لم أكن منتجًا؟”. حين يتخرج الشاب من الجامعة، محمّلًا بأحلامه وتوقعاته، يصطدم بجدران الواقع الصلبة. يرى الفرص موزعة بغير عدل، ويشعر أن شهادته التي كافح من أجلها لم تعد مفتاحًا للنجاح، بل مجرد ورقة تزين الحائط. ومع كل باب يُغلق في وجهه، تتراكم مشاعر الإحباط، فيبدأ بفقدان ثقته بنفسه، ويتحول انتظار الفرصة إلى استنزافٍ نفسيّ يلتهم طاقته ببطء.

الإنسان مبرمجٌ على الإنجاز، وحتى أبسط المهام تمنحه شعورًا بالجدوى. لكن البطالة، بما تحمله من فراغ قاتل، تخلق دوامة من القلق والاكتئاب. يبدأ العاطل عن العمل بالشعور بأنه عبء على أسرته، يتجنب التجمعات خوفًا من السؤال المعتاد: “وجدت شغلًا؟”، ويغرق في دوامة من جلد الذات. في بعض الحالات، يتحول هذا الإحساس إلى نوبات اكتئاب حادة، خصوصًا عندما يطول الانتظار. فالعاطل لا يفقد عمله فقط، بل يفقد إحساسه بالأمان والاستقرار النفسي. ومع مرور الوقت، قد يتطور الأمر إلى العزلة الاجتماعية، حيث يختار العاطل أن يختبئ من العالم بدلًا من مواجهة نظرات الشفقة أو العتب.

في المجتمعات العربية، حيث يُنظر إلى الرجل على أنه “المعيل”، تتحول البطالة إلى أزمة تهدد كينونته. يشعر الرجل بأن قيمته تُقاس بقدرته على توفير احتياجات أسرته، وحين يفشل في ذلك، يتسلل إليه الإحساس بالهامشية. قد يدفعه هذا الشعور إلى العنف اللفظي أو الجسدي، كوسيلة لا واعية لتعويض فقدان السيطرة على مجريات حياته. لكن، كما أن البطالة تهدم، فهي أيضًا تُعيد بناء الإنسان بشكل مختلف. بعض العاطلين عن العمل يحاولون تحدي الواقع بإعادة اكتشاف أنفسهم، فيلجأ بعضهم إلى العمل الحر والمشاريع الصغيرة، حيث يجدون في الإنترنت ملاذًا للهروب من قسوة البطالة، فيبدأون مشاريع بسيطة قد تصبح لاحقًا مصدر رزق رئيسي.

آخرون يختارون التطوع والعمل المجتمعي، حيث يمنحهم التطوع شعورًا بالجدوى والانتماء، فيساعدهم على مقاومة الفراغ النفسي القاتل. وهناك من يدرك أن العالم يتغير بسرعة، فيستغل فترة البطالة لتعلم مهارات جديدة تؤهله لدخول سوق العمل من بابٍ آخر. البطالة ليست مجرد غيابٍ عن الوظيفة، بل غيابٌ عن الذات. لكنها أيضًا اختبارٌ لصمود الإنسان، وقدرته على إيجاد الضوء وسط العتمة. بين اليأس والأمل، يبقى السؤال: هل نترك البطالة تلتهم أرواحنا، أم نحولها إلى فرصة لإعادة تعريف أنفسنا؟

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى