ميثاق العبودية

/ريما فارس/موقع الأمة/
في زمنٍ تتسارع فيه الأحداث وتتزاحم فيه الهموم، يبحث القلب عن طمأنينة، وتشتاق الروح إلى ملاذٍ آمن. وبين ضجيج الحياة، ينبثق من القرآن نورٌ يهدي الحائرين: نور الصبر بالله، والانتظار الواعي، والعبودية المحرِّرة. ثلاث محطات روحية تتكامل، وتشكّل معًا طريقًا يربط العبد بربّه، لا يسلكه إلا من طهّر قلبه، وتيقّن أن الله هو المقصود والملاذ.
قد يُخيّل للبعض أن الصبر مجرد تحمّل ذاتي أو ضبط للنفس، لكن القرآن يوجّهنا إلى جذره الحقيقي:
﴿وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ﴾
إنه صبر حيّ، ينبع من الإيمان والتسليم، لا من قوّة شخصية أو تمرين نفسي. صبر من يدرك أن ما عند الله خيرٌ وأبقى، وأن وراء كل بلاء حكمة، وخلف كل ألم أجرٌ لا يُضيع. صبر العارفين، الذين ينظرون إلى ما وراء الحدث، لا الغافلين الذين يستهلكهم الظرف.
وهذا الفهم العميق يتصل بجوهر الانتظار الإيماني، الذي كثيرًا ما يُساء فهمه. فالانتظار في الوعي القرآني ليس حالة من السكون أو الترقب الكسول، بل حركة داخلية تُحوِّل الرجاء إلى إعداد، والتمني إلى سعي. كما يقول أهل البصيرة: “الانتظار ليس سكونًا، بل حركة نحو التغيير الداخلي والاستعداد للقاء.”
وما أصدقه قوله تعالى: ﴿إِنَّهُمۡ يَرَوۡنَهُۥ بَعِيدٗا وَنَرَىٰهُ قَرِيبٗا﴾
المنتظر الحقيقي لا يكتفي بالدعاء، بل يشتغل على نفسه، يطهّر قلبه، يهذّب سلوكه، ويزرع في محيطه قيم العدل والاستقامة، كأنه يُمهِّد الطريق لمجيء النور. إنه انتظار يصنع الإنسان، ويهيّئ المجتمع لساعة اللقاء.
ومثلما يُساء فهم الصبر والانتظار، يُساء فهم العبودية. ففي عالمٍ تمجَّد فيه الحريات الفردية، وتُرفع فيه شعارات “كن ما تريد”، تبدو العبودية لله مفهومًا غريبًا أو مثيرًا للنفور. لكن حين نرجع إلى أصل الخلق، تتضح الصورة:
﴿وَمَا خَلَقْتُ ٱلْجِنَّ وَٱلْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾
العبودية لله ليست إذلالًا، بل تحرُّر راقٍ من كل ما سوى الله. من كان عبدًا لله، لا يركع لمخلوق، لا يُستعبَد لشهوة، لا يُستذلّ لمال أو جاه.
﴿اللَّهُ وَلِيُّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ ٱلظُّلُمَاتِ إِلَى ٱلنُّورِ﴾
هي عبودية ترفع، لا تُنقص، لأنها تخضع للحق، لا للهوى، وتُنقّي القلب من كل ما يُثقله أو يُربكه.
وهكذا، تتّصل هذه المسارات الثلاثة لتشكّل ميثاقًا واحدًا: من الصبر بالله تبدأ الرحلة بثبات، وبالانتظار الواعي يستمرّ السعي بمعنى، وفي العبودية الخالصة يتحقّق الوصول بتحرّر. ليست مسارات متفرّقة، بل خيط واحد يُنسج به ثوب الطمأنينة واليقين.
هكذا يبني القرآن الإنسان: لا بكثرة الأوامر، بل بعمق الفهم وصدق التوجّه. ومن أراد السلام الحقيقي، فليجعل بينه وبين الله ميثاقًا من صبر، وانتظار، وعبودية… فهناك، فقط، يبدأ النور.