الأب نايف اسطفان… مؤرخ أبرشية عكار الأرثوذكسية وحارس الذاكرة المخبأة

الأمة -خاص
في زمنٍ يتسابق فيه الناس نحو العابر، ينهض الأب نايف اسطفان ليقاوم النسيان. رجل دين من أبرشية عكار للروم الأرثوذكس، عاش نصف قرن بين الكنيسة والكتب، فصار كاهناً ومؤرخاً معاً. في منزله ببلدة حكر الشيخطابا تختبئ مكتبة نادرة تضم آلاف الوثائق والمخطوطات، بعضها لم يُكشف النقاب عنه حتى اليوم. هو أشبه بـ”أرشيف بشري” لعكار وتاريخها الكنسي والاجتماعي. ومع ذلك، يجد نفسه اليوم محاصراً بواقع مأزوم يمنع نشر ما تبقّى من إرثه.
مكتبة منزل تتحول إلى أرشيف
يدخل الزائر إلى بيته، فيجد رفوفاً مكتظة بالكتب، وصناديق مليئة بالوثائق القديمة. هناك مراسلات بطريركية، تكليفات دينية، رسائل شخصية، ومخطوطات عمرها مئات السنين. يقول الأب اسطفان: «كل ورقة بين يدي تحمل ذاكرة أناس رحلوا. إذا ضاعت، ضاعوا معهم.»
مؤلفات تحوّلت إلى مراجع
رغم الصعوبات، أصدر الأب اسطفان سلسلة كتب أصبحت مراجع أساسية: لمحة في تاريخ أبرشية عكار الأرثوذكسية؛ رعايا أبرشية عكار الأرثوذكسية (الجزء الأول)، قراءة في مخطوطات البطريرك مكاريوس الثالث ابن الزعيم عن أبرشيتي عكار وطرابلس للروم الأرثوذكس في القرن السابع عشر، الحقائق الجلية في الوثائق البطريركية: أزمة انتخاب المطران باسيليوس الدبس سنة 1902. هذه المؤلفات لم تكن مجرّد إعادة سرد للتاريخ، بل أعمال تحقيقية دقيقة في نصوص أصلية ووثائق نادرة.
شاهد على ثلاثة مطارنة وأكثر
لا يكتب الأب اسطفان من مسافة بعيدة، فهو عايش ثلاثة مطارنة وأكثر، ورافق التحولات الدينية والاجتماعية في الأبرشية بين لبنان وسوريا. شهاداته تنبض بالصدق: «أنا ابن هذه الأرض. عشت أزماتها وأفراحها، وما دوّنته ليس نقلاً عن الآخرين، بل سرد حياة رأيتها بأم عيني.»
بين الفكاهة والتاريخ
بعيداً عن صرامة المؤرخ، يمتلك الأب اسطفان روحاً مرحة. في جلساته الخاصة، يحكي قصصاً مضحكة عن رجال الدين والقرى العكارية، ويروي قصائد وأشعاراً لم تنشر. أحد معارفه يقول: «أحياناً يدوّن التاريخ بالضحك أكثر مما يدوّن بالقلم.» هذه الحكايات المكبوتة جزء من ذاكرة عكار الشعبية، لكنها لم تجد بعد طريقها إلى الورق.
أزمة النشر… أزمة أمة
لكن المفارقة أن كل هذا الإرث الضخم يقف اليوم رهينة الأدراج. الأزمة الاقتصادية جعلت طباعة الكتب شبه مستحيلة، والكتاب المطبوع فقد كثيراً من أثره وسط هيمنة الشاشات. يعلق الأب اسطفان بمرارة: «كتبت آلاف الصفحات، لكن ما جدوى الكتاب إذا ظل أسير الخزانة؟»
وثائق تنتظر الإنقاذ
في مكتبته ما زالت هناك كنوز لم تُكشف: وثائق عن أزمات انتخابية بطريركية، مخطوطات في تراث عكار، شهادات عن علاقة الأبرشية بطرابلس ودمشق، ومراسلات نادرة بين رجال الدين. بعضها جاهز للطبع، وبعضها يحتاج إلى جهد إضافي للتحقيق. لكن الخوف الأكبر أن تضيع هذه الكنوز إذا بقيت حبيسة البيت.
مشروع للأجيال المقبلة
الأب اسطفان لا يرى نفسه مجرد كاتب. إنه يعتبر نفسه وصيّاً على ذاكرة عكار. يقول: «أنا أديت دوري. من بعدي يأتي الجيل الجديد، إما أن يحمل الأمانة وإما أن يترك التاريخ يذوب.» بالنسبة إليه، الكتاب ليس ملكاً شخصياً، بل رسالة يجب أن تُسلَّم إلى من سيأتي بعده.
وصية مفتوحة
الأب نايف اسطفان هو رجل عاش بين الكهنوت والكتابة، بين الضحكة والوثيقة، بين الحكاية الشعبية والمخطوطة البطريركية. مؤرخ يكتب على طريقته الخاصة، صادقاً كالشاهد، دقيقاً كباحث، ومخلصاً كراهب. وصيته لأبناء عكار تظل واضحة: «التاريخ ليس ترفاً، بل واجب أخلاقي. من لا يوثق ذاكرة شعبه، كأنه يدفنه حيّاً.»
في زمن تسوده الأزمات ويُهدد النسيان كل ذاكرة، يبقى الأب نايف اسطفان علامة فارقة. ليس مجرد كاهن ولا مجرد مؤرخ، بل حارس لذاكرة عكار الأرثوذكسية، يكتب تاريخها بأوراقه، بصوته، وبفكاهته أيضاً. وإن كان الورق ينتظر النشر، فإن شهادته ستظل حيّة، تذكّر أبناء المنطقة أن للتاريخ حراساً لا يساومون على الأمانة.