مجتمع

“غلاء أقساط المدارس الخاصة في لبنان: تدمير مستقبل أم استغلال للتعليم؟”

د.ايلي دابلي/موقع الأمة/

في قلب أزمة اقتصادية غير مسبوقة، تشهد الأسر اللبنانية تحديات متزايدة في تأمين التعليم لأبنائها في المدارس الخاصة، حيث أصبحت الأقساط عبئاً ثقيلاً في ظل التدهور المستمر لقيمة العملة المحلية وتراجع القدرة الشرائية. في هذا التقرير الاستقصائي، نستعرض أبعاد هذه الأزمة المتفاقمة لعام 2024، مدعومةً بمؤشرات ودراسات حديثة، ونحلل انعكاساتها السلبية على الاقتصاد اللبناني، في ظل ضعف الحلول المتاحة.

غلاء الأقساط: بين التضخم وانهيار الليرة وضعف قيمة الدولار الشرائية 

أفادت دراسة حديثة صادرة عن “الدولية للمعلومات” لعام 2024 بأن أقساط المدارس الخاصة في لبنان شهدت زيادات تراوحت بين 50% و70% خلال العام الدراسي الجاري مقارنة بالعام الماضي. يأتي هذا الارتفاع نتيجة الانهيار الحاد في قيمة الليرة اللبنانية، مما دفع المدارس إلى تعديل رسومها وفقاً لسعر صرف الدولار الأمريكي.

تشير الدراسة إلى أن متوسط الأقساط السنوية في المدارس الخاصة في بيروت تجاوزت 2,500 دولار أمريكي، بينما وصل في بعض المدارس المرموقة إلى أكثر من 8,000 دولار، وهو ما يعادل أكثر من ثلاثة أضعاف دخل الأسرة المتوسط. في المقابل، بقيت الرواتب ثابتة أو تراجعت قيمتها بفعل التضخم المفرط، مما زاد من صعوبة تأمين هذه التكاليف على الأسر اللبنانية.

تدهور القدرة الشرائية وانعكاساتها الاجتماعية

وفقًا لتقرير “البنك الدولي” لعام 2024، انخفضت القدرة الشرائية للأسر اللبنانية بأكثر من 80% منذ بداية الأزمة الاقتصادية في عام 2019. يوضح التقرير أن غالبية الأسر باتت عاجزة عن توفير الأساسيات، بما في ذلك التعليم، الذي كان يُعتبر سابقاً من أولويات الأسرة اللبنانية.

أدت هذه الظروف إلى نزوح العديد من الطلاب من المدارس الخاصة إلى المدارس الحكومية، التي تعاني بدورها من نقص التمويل وضعف البنية التحتية، أو حتى إلى التخلي عن التعليم تمامًا. يشير الدكتور جاسم عجاقة، الخبير الاقتصادي والأستاذ الجامعي، إلى أن “التعليم بات من الرفاهيات في لبنان، واستمرار هذا الوضع سيؤدي إلى ارتفاع معدلات الأمية والتسرب المدرسي”.

تأثير غلاء التعليم على الاقتصاد اللبناني

لا يقتصر تأثير غلاء أقساط المدارس الخاصة على الأسر فحسب، بل يمتد ليشكل عائقًا أمام النمو الاقتصادي في لبنان. فارتفاع تكاليف التعليم يدفع الأسر إلى تقليص إنفاقها على السلع والخدمات الأخرى، مما يؤدي إلى تراجع الحركة الاقتصادية. وبحسب تقرير “غرفة التجارة والصناعة والزراعة في بيروت” لعام 2024، شهدت القطاعات المعتمدة على الإنفاق الاستهلاكي للأسر انخفاضًا في الإيرادات بنسبة تجاوزت 60% مقارنة بعام 2019.

ويحذر الدكتور كمال حمدان، الخبير الاقتصادي، من أن “استمرار هذا الوضع سيؤدي إلى نشوء جيل يعاني من ضعف في التعليم والمعرفة، مما يفاقم البطالة ويضعف القوة العاملة في المستقبل، وبالتالي يعوق عملية التعافي الاقتصادي”.

ردود فعل الأهالي والمدارس: بين الضغط والحلول المؤقتة

في مواجهة هذه الأزمة، بدأت بعض المدارس الخاصة بتقديم خصومات أو برامج تقسيط للأسر المتضررة، لكن هذه الحلول تبقى محدودة وغير كافية. تقول سمر، وهي أم لطفلين: “حتى مع الخصومات، لم يعد بإمكاننا تحمل هذه التكاليف. نعيش في حالة من القلق المستمر حول مستقبل تعليم أبنائنا”.

من جهة أخرى، تجد المدارس نفسها مضطرة لزيادة الرسوم لضمان استمراريتها، في ظل ارتفاع تكاليف التشغيل وتدهور قيمة الليرة اللبنانية. يوضح مدير إحدى المدارس في جبل لبنان: “نحن مضطرون لتعديل الأقساط بشكل دوري لنتمكن من تغطية التكاليف الأساسية، من رواتب المعلمين إلى فواتير الكهرباء”.

الحلول المقترحة ودور الدولة المغيب

حتى الآن، تبدو الحلول المطروحة محدودة، في ظل غياب تدخل حكومي فعّال لتنظيم قطاع التعليم الخاص أو تقديم دعم مالي للأسر المتضررة. يشدد بعض الخبراء على ضرورة وضع خطة إنقاذ شاملة تتضمن دعمًا ماليًا مباشرًا للأسر، وتحسين جودة التعليم في المدارس الحكومية لتخفيف الضغط على المدارس الخاصة.

كما يدعو البعض إلى تعزيز الشفافية في تحديد الأقساط المدرسية ووضع آلية رقابية لضمان عدم استغلال الأزمة لزيادة الأرباح على حساب التعليم، وضمان استمرارية التعليم الجيد لكل فئات المجتمع.

خاتمة

في ظل تفاقم الأزمة الاقتصادية واستمرار غلاء أقساط المدارس الخاصة، يبقى مستقبل آلاف الطلاب في لبنان معلقًا في ميزان الحلول المفقودة. إن استمرار هذا الوضع دون تدخل جدي يهدد بانهيار المنظومة التعليمية، وزيادة الفجوة بين الطبقات الاجتماعية، وتعميق الأزمة الاقتصادية.

إن بناء اقتصاد متين ومستدام في لبنان يتطلب الاستثمار في التعليم كركيزة أساسية، وضمان أن يكون هذا التعليم متاحاً لكل أفراد المجتمع بغض النظر عن ظروفهم الاقتصادية. لذا، فإن التوازن بين جودة التعليم وإتاحته للجميع يجب أن يكون الهدف الأسمى للسياسات الحكومية المستقبلية، قبل أن يتفاقم الوضع ويصبح حلاً صعب المنال.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى